فصل: الركن الأول: المسروق:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة



.الباب الثاني: في مجامع أحكام القذف:

وإذا قذفه بزنيتين، وقد تخلل بينهما الحد، تعدد.
وذكر الشيخ أبو عمر: أنه لا يحد له ثانيًا، بل يزجر عن ذلك فقط. ولو ضرب بعض الحد فقذف الأول أو غيره، فقال ابن الماجشون: إن كان إنما مضى مثل السوط أو الأسواط اليسيرة، فإنه يتمادى ويجزيه لهما. قال أشهب: والعشرة الأسواط يسيرة.
وقال ابن القاسم: يستأنف إلا أن يبقى من الحد الأول مثل سوط أو أسواط فيتم. ثم يبتدئ حدًا ثانيًا.
وقال محمد: إذا لم يبق إلا أيسر الحد مثل العشرة والخمسة عشر فليتم الحد، ثم يؤتنف.
قال القاضي أبو الوليد: ويجيئ على قول أشهب أنه إن ذهب اليسر تمادى وأجزى الحد لهما، وإن مضى نصف الحد أو ما يقرب منه استؤنف لهما، وإن لم يبق إلا اليسير فيتمه ثم يستأنف حدًا آخر للقذف الثاني. وإن لم يتخلل بين القذفين حد ولا شيء منه تداخلاً. وكذلك لو قذف جماعة.
وبالجملة فحده للقذف يجزي عنه لكل قذف تقدمه، لواحد أو لجماعة. قال القاضي أبوالوليد: سواء قذفهم متفرقين أو مجتمعين.
وقال الشيخ أبو إسحاق: بعض أصحابنا يقول: إن قذفهم فقام به أحدهم حد له، ثم من قام حد له أيضًا هكذا.
وقال رجل من أصحابنا: سواء كان متفرقًا أو بكلمة واحدة يحد بعدد من رماه. قال: وبالأول أقول.
وخرج الأستاذ أبو بكر هذا الخلاف على الخلاف في أن حد القذف هل هو من حقوق الله تعالى أو من حقوق الآدميين.
وحكى القاضي أبو محمد في هذه المسألة روايتين، وخرج عليهما جواز العفو عنه بعد بلوغه إلى الإمام، ثم قال: والصحيح أنه من حقوق الآدميين بدليل أنه يورث عن المقذوف، وحقوق الله تعالى لا تورث، وأنه لا يستحق إلا بمطالبة الآدمي.
ويتخرج على الروايتين أيضًا حكم العفو قبل بلوغ الإمام، فروى ابن القاسم وابن وهب وابن عبد الحكم جوازه. وروى أشهب أن ذلك ليس بلازم له، وله القيام متى شاء، إلا أن يريد سترًا.
وعلل القاضي أبو الوليد الأول بأنه حق لمخلوق ولم يبلغ الإمام فلزم العفو وعلل الثاني بأنه حق لله تعالى يجوز القيام به، ولا يلزم العفو عنه بعد بلوغ الإمام، فلا يلزمه قبل بلوغه كحد الزنى.
ولو أعطى القاذف للمقذوف دينارًا على أن يعفو عنه، ففي العتبية من رواية أشهب: لا يجوز ذلك، ويجلد الحد.
وفي كتاب محمد: قال مالك: للمقذوف أن يكتب بالقذف كتابًا أنه متى شاء قام به. قال وإني لأكرهه. قال القاضي أبو الوليد: ومعنى ذلك، عندي، قبل أن يبلغ الإمام. قال: وقد رأيت لمالك نحو هذا.
وقال: هذا يشبه العفو.
فرع:
إذا ادعى على رجل أنه قذف ولا بينة للمدعي، لم يكن له أن يحلف المدعى عليه، لكن إن أقام شاهدًا واحدًا أحلف له، فإن نكل سجن أبدًا حتى يحلف. قال محمد: ولم يختلف أصحاب مالك أنه يحبس أبدًا حتى يحلف.

.كتاب السرقة:

الجناية الخامسة: السرقة:
والنظر في ثلاثة أطراف:

.الطرف الأول: في الموجب، وهو السرقة:

ولها ثلاثة أركان:

.الركن الأول: المسروق:

وهو كل ما تمتد إليه الأطماع، ويصلح عادة وشرعًا لانتفاع به. فإن منع منه الشرع فلا ينفع تعلق الطماعية به، ولا يتصور الانتفاع منه عادة كالخمر والخنزير وشبههما. ثم هو مال وغير مال.
فأما غير المال، فهو كالحر الصغير، فإذا سرق من حرز مثله قطع سارقه، وذلك مروي عن عمر رضي الله عنه وعبد الملك بن مروا، وبه قال الفقهاء السبعة والقاسم بن محمد والشعبي والزهري وربيعة.
وقال عبد الملك بن الماجشون: لا قطع في سرقة الحر.
ودليل المذهب عموم الآية، وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه ذكر عنده رجل يسرق الصباين فأمر بقطعه.
وأما المال فشرطه أن يكون نصابًا مملوكًا لغير السارق ملكًا محترمًا تامًا محرزًا لا شبهة فيه. فهذه ستة شروط.
الشرط الأول: النصاب، وهو ربع دينار، أو ثلاثة دراهم، أو ما يساوي الثلاثة دراهم. وقيل: ما يساوي أحدهما إذا كانا غالبين. وتأوله الشيخ أبو بكر عن ابن القاسم، ونزل كلامه عليه.
وقال القاضي أبو الوليد: يجب أن يكون الاعتبار في قيمة العرض بما يباع به غالبا في بلد التقويم. كقيم المتلفات. ويقطع في خاتم وزنه ثلاثة دراهم وإن لم يساو ربع دينار، واختار القاضي أبو بكر الاقتصار على اعتبار الذهب خاصة.
ولو سرق دنانير وظنها فلوسًا لم تبلغ نصابًا قطع. وكذلك من سرق ثوبًا لا يساوي ثلاثة دراهم، فيه دنانير أو دراهم مصرورة وهو لا يشعر، فقال مالك: أما الثوب وشبهه مما يعلم الناس أنه يرفع ذلك في مثله، فإنه يقطع، وإن لم يدر ما فيه، وأما ما لا يرفع ذلك في مثله كالخشبة والعصى والحجر، فلا يقطع إلا في قيمة ذلك دون ما رفع فيه من ذهب أو فضة.فأما لو سرق مالاً قطع فيه فلم يعلم به حتى سرق ما يكون فيه مع الأول القطع، فقال أشهب في كتاب محمد: لا يقطع حتى يسرق في مرة واحدة نصابًا. قال: ولو سرق قمحًا من بيت، فكان يدخل إلى البيت عشر مرات في ليلة، يخرج في كل مرة بقيمة درهم أو درهمين، فإنه لا يقطع حتى يخرج في مرة واحدة ثلاثة دراهم.
وقال سحنون: إذا كان في فور واحد فإنه يقطع. وهذا من باب الحيلة والتسبب إلى أخذ أموال الناس.
ولو أخرج نصابًا من حرزين، فقال عبد الملك: لا يقطع حتى يسرق من حرز واحد.
قال محمد: ولو كان لرجل تابوتان في دار، فسرق السارق من كل تابوت درهمًا ونصفًا لم يقطع إذا كانت دارًا مشتركة، ولو خرج بذلك من الدار كلها. ولو لم تكن مشتركة، وخرج بذلك من جميع الدار لقطع، وإن أخذ فيها لم يقطع.
ولو اشترك رجلان في حمل ما يساوي نصف دينار قطعًا. ولو كان إنما يساوي ربع دينار فقط، فقال ابن الماجشون: يقطعان إذا كان المسروق بحيث لا يمكن أحدهما إخراجه دون الآخر. فأما لو اشتركا فيما يستقل أحدهما بإخراجه، فلا قطع على واحد منهما، إلا أن يكون في نصيبه نصاب.
وقال غيره: بل يقطعان، وإن كان المسروق مما يستقل أحدهما بحمله إذا ساوى بجملته نصاباً، لو خرج كل واحد منهما بشيء لم يقطع إلا من أخرج نصابًا.
قال ابن القاسم: ومن سرق هو وصبي أو مجنون شيئا قيمته ثلاثة دراهم، لم يقطع الصبي والمجنون، وقطع الذي معه. وينبغي أن تكون القيمة بالغة نصاباً بقول عدلين من أهل المعرفة بقيمة جنس المسروق.
فرع:
المعتبر في القيمة المنفعة المقصودة من المسروق عادة وشرعًا، فلو سرق حمامًا عرف بالسبق، أو طائرًا عرف بالإجابة إذا ادعي، قوم ذلك على أنه ليس فيه ذلك ولا سواء مما هو للعب والباطل. وأما سباع الطير المعلمة، فينظر إلى قيمتها على ما فيها من ذلك. وذكر عن أشهب: أنه يقوم ذلك كله بغير ما فيه، كان بازيًا معلما أو غيره. قال: وهو نحو قول مالك في قتل المحرم إياه.
الشرط الثاني: أن يكون مملوكًا لغير السارق، فلو سرق ملك نفسه من المرتهن أو المستأجر، فلا قطع. ولو طرأ الملك بإرث قبل الخروج من الحرز، فلا قطع، وبعده لا يؤثر. وكذلك نقصان القيمة بالأكل والإتلاف قبل الإخراج يؤثر، وبعد لا يؤثر.
ولو قال عن متاع في يده: سرقته من فلان، فكذبه فلان لقطع بإقراره، يبقى المتاع له، إلا أن يدعيه ربه فيأخذه.
ومن سرق متاعًا مستسرًا لرجل غائب، فقام به أجنبي، فقال: بعثني به ربه، قطع، وإن صدقه ربه أنه بعثه، كان معه في بلد أو لم يكن.
وقال مالك فيمن أخذ في جوف الليل ومعه متاع أخذه من منزل رجل، وقال: وهو أرسلني بذلك، وصدقه ربه، فإن عرف منه انقطاع إليه وأشبه ما قال، لم يقطع، وإلا قطع ولم يصدق.
وقال عيسى: أحب إلي، إذا صدقه، ألا يقطع.
وقال أصبغ: معنى قول مالك: ويشبه ما قال، أن يدخل إلى المتاع من مدخله غير مستسر وأتى في وقت أن يدخله فيه.
الشرط الثالث: أن يكون محترمًا، فال قطع على سارق الخمر والخنزير، ولا على سارق الطنبور والملاهي من المزمار والعود، وشبهه من آلات اللهو، إلا أن يكون في قيمة ما يبقى منها، بعد إفساد صورتها وإذهاب المنفعة المقصودة بها، ربع دينار فأكثر. وكذلك الحكم في أواني الذهب والفضة التي لا يجوز استعمالها ويؤمر بكسرها، فإنما يقوم ما فيها من ذهب أو فضة دون صنعة. وكذلك الصليب من ذهب أو فضة، والزيت النجس إن كانت قيمته على نجاسته نصابًا.
وقال غيره: إنما يقطع فيه إذا كانت قيمة ما فيه من الصنعة نصابًا. وروي أنه لا يقطع في جلد ميتة أصلاً وإن دبغ.
ولا يقطع سارق الكلب عن ابن القاسم.
وقال أشهب: ذلك في المنهي عن اتخاذه، فأما المأذون في اتخاذه فيقطع سارقه.
ومن سرق لحم أضحية أو جلدها قطع، إذا كانت قيمة ذلك ثلاثة دراهم، وقاله أشهب.
وقال ابن حبيب: قال أصبغ، إن سرق الأضحية قبل الذبح قطع، وأما إن سرقها بعد الذبح فلا يقطع لأنها لا تباع. ولو سرقت ممن تصدق بها عليه لقطع إن كانت قيمة ما سرق نصابًا، قولاً واحدًا.
ومن سرق سبعًا يذكى لجلده وينتفع به، على ما تقدم، قطع فيه، إلا أن الاختلاف واقع في المعتبر في نصاب القطع، هل هو قيمة جلده ذكيًا أو قيمة عينه حيًا، على قولين بين ابن القاسم وأشهب.
الشرط الرابع: أن يكون الملك تامًا قويًا، فلو كان للسارق فيه شركة ولو بجزء يسير، ولم يحجب عنه، بل يده جائلة مع شريكه، فلا قطع.
وأما ما حجب عنه فسرق منه ما يزيد على نصيبه من المسروق نصابًا كاملاً، فعليه القطع، أما مال بيت المال، وأهداء المسلمين، والمغانم بعد حيازتها، فيقطع سارقها وإن لم يزد ما أخذ على النصاب، إذ لا بال لما يستحقه من ذلك.
وقال عبد الملك: لا قطع عليه، إلا أن يسرق ربع دينار زيادة على سهمه. ولا يقطع الأبوان بسرقة مال ابنهما. ويقطع في سرقة مالهما. واختلف في الجد، فقال مالك وابن القاسم: لا يقطع.
وقال أشهب: يقطع.
قال ابن القاسم وأشهب: ويقطع من سواهما من القرابات.
وقال مالك: أحب إلي أن لا يقطع الأجداد من قبل الأب والأم لأنهم آباء وإن لم تجب لهم نفقة، والدية تغلظ على أبي الأب. ولا يقطع العبد في ماله سيده.
وقال ابن القاسم: ولا يقطع من سرق من جوع أصابه.
الشرط الخامس: أن يكون المال خارجًا عن شبهة الاستحقاق في حق السارق، فلا قطع على مستحق الدين إذا سرق من غريمه المماطل جنس حقه.
وأما الزوجان فمن سرق منهما من مال الآخر نصابًا من بيت حجر عنه، وفي الدار ساكن غيرهما، فعليه القطع، وإن لم تكن الدار مشتركة وليس معهما ساكن غيرهما، ففي وجوب القطع خلاف، وحكم الضيف حكم أحدا لزوجين للإذن.
وما سرق عبد أحد الزوجين من مال الآخر من حرز لم يؤذن له في دخوله، فعليه القطع. وكذلك ولد كل واحد منهما إذا سرق من مال الآخر مما أحرز عنه فعليه القطع.
ولا يسقط القطع كون المسروق مباح الأصل، كالحطب وشبهه، بل قال في كتاب محمد: يقطع في كل شيء، حتى الماء إذا أحرز لوضوء أو شرب أو غيره. وكذلك العلف والتين والحطب وشبهه إذا بلغ نصابًا وسرق من حرزه، ولا كونه طعامًا رطبًا متعرضًا للفساد كاللحم والسمك والأمراق والهرائس والثرائد، ونحوه من الفواكه مثل الرطب والعنب والتين والقثاء والبطيخ وما أشبهه، ولا كون المسروق قطع فيه دفعة أخرى، بل يقطع ثانيًا. ويقطع بسرقة المال من يد المودع والوكيل، والمرتهن والمستعير.
الشرط السادس: أن يكون محرزًا، ومعناه أن يكون في مكان هو حرز لمثله في العرف والعادة، وذلك يختلف باختلاف عادات الناس في إحراز أموالهم، وهو في الحقيقة كل مال لا يعد صاحب المال في العادة مضيعًا لماله بوضعه له فيه.
وجملة القول فيه: أن كل شيء له مكان معروف به، فمكانه حرزه، وكل شيء معه حافظ، فحافظه حرزه، فمن ذلك أن الدور والمنازل والحوانيت حرز لما فيها، غاب أهلها أو حضروا. وكذلك ظهور الدواب حرز لما جملت، وأفنية الحوانيت حرز لما وضع فيها في الموقف للبيع، وإن لم يكن هناك حانوت، كان معه أهله أم لا، سرقت في ليل أو نهار. وكذلك موقف الشاة في السوق، مربوطة أو غير مربوطة، والدواب على مرابطها محرزة، كان أهلها معها أم لا، فإن كانت الدابة بباب المسجد أو في السوق لن تكن محرزة إلا أن يكون معها حافظ. ومن ربط دابة بفنائه، أو اتخذ موضعًا مربطًا لدوابه، فإنه حرز لها. والسفينة حرز لما فيها، وسواء كانت سائبة أو مربوطة، فإن سرقت السفينة نفسها، فهي كالدابة إن كانت سائبة فليست بمحرزة، وإن كان صاحبها ربطها في موضع وأرساها فيه فرباطها حرز. وهكذا إن كان معها أحد حيثما كانت فهي محرزة كالدابة باب المسجد معها حافظ، إلا أن ينزلوا بالسفينة في سفرهم منزلاً فيربطونها فهو حرز لها، كان صاحبها معها أم لا.
وأما حصر المسجد، فروي عيسى عن ابن القاسم: أن سارقها يقطع وإن لم يكن للمسجد باب، ورآها محرزة. وإن سرق الأبواب قطع أيضًا.
قال أصبغ: ويقطع سارق حصر المسجد وقناديله وبلاطه، كما لو سرقت بابه مستسرًا أو خشبة من سقفه أو من حوائزه.
وروي عن ابن القاسم: إن كانت سرقته للحصر نهارًا لم يقطع، وإن كان تسور عليها ليلاً قطع.
وذكر عن سحنون في غير العتبية: إن كانت حصره خيط بعضها إلى بعض قطع، وإلا لم يقطع.
وقال ابن القاسم: أيضًا: من سرق من المسجد الحرام أو مسجد لا غلق عليه لا يقطع. ومن سرق القناديل ليلاً أو نهارًا قطع.
وقال أشهب في كتاب محمد: لا قطع في شيء من حصر المسجد وقناديله وبلاطه. قال ابن حبيب: وقال ابن الماجشون: وإن سرق من ذهب باب الكعبة قطع. ويقطع في القناديل والحصر والبلاط. وإن أخذ في المسجد، كان في ليل أو نهار وحرزها مواضعها. وكذلك الطنفسة ببسطها الرجل في المسجد لجلوسه إذا كانت تترك فيه ليلاً ونهارًا كالحصر.
وقاله مالك. وأما الطنافس تحمل وترد، فربما نسيها صاحبها وتركها، فلا يقطع فيها، وإن كان على المسجد غلق، لا، الغلق لم يجعل من أجلها.
وقال ابن القاسم في العتبية فيمن سرق من بسط المسجد التي تطرح فيه في رمضان، فإن كان عنده صاحبه قطع، وإلا فلا.
وكذلك قال مالك في محارس الإسكندرية يعلق الناس فيها السيوف والمتاع فيسرق. قال: إن كان صاحبه عنده قطع سارقه. قال مالك: لأن صفوان لم يقم عن ردائه ولا تركه.
وفي العتبية، من رواية محمد بن خالد عن ابن القاسم، فيمن جعل ثوبه قريبًا منه، ثم قام يصلي فسرقه رجل: إنه يقطع إذا أخذ وقد قبضه قبل أن يتوجه به، قال: ولو قلت: لا يقطع حتى يتوجه به، لقلت: لا يقطع حتى يخرج من المسجد. وقد قال أصبغ في غير رواية ابن حبيب: يقطع، كان معه حارس أو لم يكن، كقناديل المسجد وحصره.
وما كان على رأس رجل في قفة أو غيرها، فهو محرز به. وكذلك ما كان في جيبه، فالجيب حرز لما فيه، وكمه، أيضًا، حرز لما فيه، كان مشدودًا في كمه أو غير مشدود. وهذا كله إذا استسر في أخذه، فأما إذا أخذه اختلاسًا أو مكابرة، فقال ابن القاسم: لا يقطع إلا أن يؤخذ المكابر بحكم الحرابة.
ولو دخل الحرز فأخذ منه إزارًا فاتزر به، ثم أخذ في الحرز والإزار عليه، فانفلت من أيديهم، وخرج هاربا والإزار عليه، وقد علم أصحاب الحرز به أو لم يعلموا، لم يقطع. وأما لو أدرك صاحب البيت فيه سارقًا فتركه حتى أحضر من يشهد عليه، ولو شاء لمنعه الأخذ، فتركه حتى خرج بالمسروق، فهل يقطع أم لا؟ ثلاثة أقوال، يفرق في الثالث بين أن يشعر برؤيتهم له فيقر، فلا يقطع لأنه مختلس، وبين أن لا يشعر بذلك فيقطع لأنه سارق. والقطع لأصبغ. ونفيه لمالك. والتفرقة لبعض المتأخرين.
ولو سرق شيء من بين يدي صاحبه لقطع سارقه، لأن ذلك حرزه. ومن سرق متاعًا من الحمام، فإن كان دخل من بابه لم يقطع، إلا أن يكون عند الباب حارس يحرسه.
وفي الكتاب: إن دخل الحمام من غير بابه، مثل أن ينقب أو يتسور على الحائط ونحوه، فإنه يقطع، وإن لم يكن معه ربه والحمام مشترك لمن دخله، والموضع الذي فيه الثياب مشترك، بمنزلة الصنيع يصنع في البيت فيدخله القوم ويسرق أحده من البيت، فإنه لا يقطع.
وخباء المسافر حرز لما فيه ولما خارجه. وإن كان ربه قد ذهب لحاجته. وكذلك لو سرق الخباء نفسه، فإن سارقه يقطع. وكذلك القطار من الدواب حرز لما فيه، من سل منها شيئا أو أخرجه من القطار قطع، سواء كانت سائرة أو واقفة، كان معها حافظ أم لا.
والمحمل حرز لما فيه، من أخذ منه مستسرًا، أو أخذ من ظهر البعير شيئا استسر يأخذه ولم يختلسه قطع.
وأما الثوب المنشور على الحائط إلى الزقاق، فلا قطع فيه. وروي عن ابن القاسم رواية أخرى: أنه يقطع.
وقاله غير ابن القاسم. واختلف الرواية في ما على حبل الصباغين والقصارين.
ما الرفقاء في السفر يكون كل واحد على حدته، فإن سرق أحدهم من الآخر قطع.
وأهل الدار الواحدة ذات المقاصير يسرق أحدهم من بعضها يقطع. وإذا كانت دار مشتركة مأذون فيها، وبيوتها محجورة على الناس، فإن السارق إذا أخرج المتاع من بيت منها إلى الساحة المشتركة قطع.
وقال سحنون: وذلك إذا كان السارق من سكانها، وإلا لم يقطع حتى يخرجه من جميع الدار.
وقال محمد: يقطع وإن لم يكن من أهل الدار. ولا يختلفان أن أحد ساكنيها لو سرق مما في العرصة المشتركة وأخرجه من الدار قطع.
والقبر حرز لما فيه، سواء كان في الدور أو في الصحراء. فيقطع النباش إذا سرق منها ما يساوي ربع دينار بعد الإخراج. ولا يقطع حتى يخرجه إلى وجه الأرض.
ولو مات في البحر فكفن وطرح في البحر لقطع من أخذ كفنه، سواء شد في خشبة أم لا.
وهكذا المطامير في الجبار والصحاري هي حرز لما فيها، فيقطع من سرق منها نصابًا، سواء كان عليها حائط أو لم يكن.

.الركن الثاني: نفس السرقة:

وهي الإخراج، والنظر في ثلاثة أطراف.

.الطرف الأول: في إبطال الحرز:

فلو نقب وأخرج غيره، فإن كانا متعاونين قطعاً، وإن انفرد كل واحد بفعله دون اتفاق بينهما فلا قطع على واحد منهما، وإن تعاونا في النقب، وانفرد أحدهما بالإخراج فالقطع عليه خاصة. ولا يشترط في الاشتراك في النقب التحامل على آلة واحدة، بل التعاقب في الضرب تحصل به الشركة. ولو دخل أحدهما فأخرج المتاع إلى باب الحرز، فأدخل الآخر يده فأخذه، فعليه القطع، ويعاقب الأول.
وقال أشهب: يقطعان. وإن وضعه خارج الحرز، فعليه القطع لا على الآخر. وإن وضعه في سوط النقب وأخذه الآخر، والتقت أيديهما في النقب قطعًا جميعًا.

.الطرف الثاني: في وجوه النقل:

ولو رمي المال إلى خارج الحرز قطع، أخذه أو تركه. ولو أخذ داخل الحرز بعد رمي المتاع إلى خارجه، فقال ابن القاسم: يقطع. ووقف فيه مالك. وروى أشهب وابن عبد الحكم أنه يقطع. وروى مثله ابن القاسم.
ولو استخرج من الحرز بمحجن لقطع. ولو ربطه أحدهما بحبل وجذبه الآخر قطعًا جميعًا وروي أنه يقطع الجاذب فقط. ولو أكل في الحرز لم يقطع. ولو ابتلع درة في الحرز وخرج لقطع. ولو ادهن بالدهن داخل الحرز وخرج، فإن كان يخرج عنه بالسلت وغيره ما يساوي نصابًا قطع. ولو وضع المتاع في الماء حتى خرج به إلى خارج الحرز لقطع. وكذلك لو فتح أسفلا الكندوج حتى أنصب ما فيه من حب ونحوه. ولو وضع المتاع على ظهر دابة فخرجت به، فكذلك أيضًا. ولو أشار إلى شاة بالعلف فخرجت من حرزها لم يقطع في رواية أشهب،ويقطع في قوله وقول ابن القاسم. ولو حمل السارق عبدًا صغيرًا من دار رواية أشهب، ويقطع في قوله وقول ابن القاسم. ولو حمل السارق عبدًا صغيرًا من دار سيده قطع لأنه حرزه. ولو دعاه وخدعه وهو مميز، فلا قطع، وإن لم يكن مميزًا قطع، ولو أكره بالسيف على الخروج فلا قطع.

.الطرف الثالث: في المحل المنقول إليه:

ولا يقطع بالنقل من زاوية الحرز إلى زاوية أخرى، وإنما يقطع بنقل المسروق عن الحرز إلى ما ليس بحرز له. فإن نقل من البيت إلى صحن الدار، فإن كانت مشتركة قطع على الخلاف المتقدم، وإن لم تكن مشتركة فال قطع. وعرصة الخان حرز لبعض الأمتعة. وكذلك ساحة الدار المشتركة، ولكن في حق السكان ليس بحرز إلا أن يكون مثل الشيء الثقيل والأعكام التي قد أنزلها مالكها، فيه وجعله موضعها، فيقطع، وإن كانت الدار مشتركة. وكذلك الدابة على مذودها. فإن لم يكن في الدار ساكن أو لم يكن فيها سوى ساكن واحد ولم تكن مشتركة، فلا قطع في شيء من ذلك حتى يخرج به من جميع الدار.

.الركن الثالث: السارق:

وشرطه التكليف، فلا قطع على الصبي والمجنون. ويجب على الذمي والمعاهد، والحربي، إذا دخل إلينا بأمان ثم يستوفي، قهرًا سرق مال مسلم أو دمي، وإن لم يترافعوا إلينا، لأن ذلك من الحرابة، ولا يقرون عليها بينهم.
ويستوي في القطع الرجل والمرأة، والحر والعبد، إلا أن يكون ملكًا للمسروق منه.

.النظر الثاني من الكتاب: في إثبات السرقة:

وثبت بالإقرار والشهادة.
الحجة الأولى: الإقرار مع الإصرار، فإن رجع لم يسقط الغرم، ويسقط الحد إن رجع إلى شبهه. وفي سقوطه إن رجع إلى غير شبهة روايتان، كما لو أقر باستكراه امرأة على الزنى ثم رجع، لسقط الحد ولم يسقط المهر. ولو أقر السارق قبل الدعوى قطع، ولم يقف على دعوى الملك. ولو رد اليمين فحلف الطالب ثبت الغرم دون القطع.
أما البعد إذا أقر بسرقة توجب القطع فإنه يقطع، ولا يقبل في المال ولو أقر بسرقة دون النصاب فأولى أن لا يقبل في المال أيضًا.
الحجة الثانية أيضًا للسرقة: الشهادة، وثبت برجلين، فإن لم يشهد إلا رجل وامرأتان ثبت الغرم دون القطع. وكذا في شاهد ويمين. ولا تقبل الشهادة على السرقة مطلقًا. بل لابد من التفصيل.

.النظر الثالث: في الواجب:

وهو القطع ورد المال مع قيامه، فأما مع تلفه بالغرم إن كان موسرًا من حين السرقة إلى حين القطع عند ابن القاسم. وعند أشهب إلى حين القيام عليه فأما إن تغير حاله من يسر إلى عسر، أو سرق وهو معسر ثم أيسر، أو تكرر ذلك من أحواله في الوجهين لم يضمنها إن لم تكن قائمة. قال محمد: ولو قطع وهو ملي فلم يغرم حتى أعدم، فقال أشهب: لا يتبع، وقال ابن القاسم: يتبع.
قال الشيخ أبو إسحاق: وقد قيل: أنه يتبع بها مع القطع، كان موسرا أو معسرًا، قال: وهو قول غير واحد من أهل المدينة، واستدل على صحته بأنهما حقان لمستحقين، فلا يسقط أحدهما الثاني. ثم قال: وبهذا القول أقول. واستدل القاضي أبو الحسن للمشهور بقوله صلى الله عليه وسلم: إذا أقيم على السارق الحد، فلا ضمان عليه. وأسنده في كتابه، وفسر الضمان بما يلزم الذمة ولا يسقط بالعسر.
وأول ما يقطع اليد اليمنى من الكوع، قال في المختصر: ويحسم موضع القطع بالنار. قال في موضع آخر: وكذلك في الرجل. فإن عاد قطعت رجله اليسرى، فإن عاد فيده اليسرى، فإن عاد فرجله اليمنى، فإن عاد عزر وحبس.
وقال أبو مصعب: يقتل هذا مع سالمة الأعضاء، ولو نقصت يده إصبعًا اكتفينا بها.
وقيل: يكتفي بها ما بقي أكثر الأصابع، أما لو يبق إلا لكف أو الأقل، فإنها لا تقطع، بل ينتقل إلى ما بعدها. ولو كانت شلاء، أو كان لا يمين له فسرق، قطعت يده اليسرى، في الرواية الأخيرة. وفي الأولى تقطع رجله اليسرى.
وقال أبو مصعب: تقطع الشلاء.
وقال ابن وهب: تقطع إذا كان ينتفع بها.
ولو سرق فسقطت يمناه بآفة سقط الحد. ولو بادر الجلاد فقطع اليد اليسرى عمدًا، فعليه القصاص والحد باق، وكذلك إن فعل ذلك الإمام. ولو كان غلطًا لأجزأ ذلك عنه.
وقال ابن الماجشون: لا يجزيه وتقطع اليمنى، ويكون عقل الشمال في مال السلطان، أو المباشر في الخطأ. قال: وإليه رجع مالك.
وإذا فرعنا على الأول، ثم سرق، قطعت رجله اليمنى عند ابن القاسم، واليسرى عند ابن نافع.
فرع:
في تداخل الحدود وسقوطها.
وما تكرر من الحدود من جنس واحد، فإنه يتداخل كالسرقة إذا تكررت، أو الزنى، أو الشرب، أو القذف، فمتى أقيم حد من هذه الحدود أجزأ عن كل ما تقدم على الحد من جنس تلك الجناية التي حد عليها، ثم لا يحد حتى يستأنف ارتكاب الجناية دفعة أخرى.
ولا تسقط الحدود بالتوبة، ولا بصلاح الحال، ولا بطول الزمان، بل لو قامت البينة عليه، أو أقر بأنه كان أتى جناية من هذه الجنايات، ولو يقم عليه حدها لأقيم عليه الآن، وإن كان من أحسن الناس حالاً، وأجملهم سيرة، وأجلهم قدرًا، ولو طال الزمان وتمادى الأمر البعيد.

.(كتاب الحرابة):

الجناية السادسة: الحرابة:
والنظر في ثلاثة أطراف:

.الطرف الأول: في صفة المحاربين، وحكم قتالهم:

أما صفتهم، فإن المشهرين السلاح قصد السلب محاربون، كان ذلك في مصر أو قفر، صدر من ذي شوكة، أو ممن لا شوكة له، ولا تشترط الذكورة، ولا آلة مخصوصة، فقد يقتل المحارب بالحبل أو بالحجر، وقد يقتل بغير آلة كالخنق باليد وبالفم وبغير ذلك، وهو محارب وإن لم يقتل، وقد يخرج بالسلاح، وقد لا يحتاج إليه. وكل من قطع الطريق وأخاف الناس، فهو محارب. وكذلك من حمل عليهم السلاح بغير عداوة ولا نايرة، فهو محارب. وقتل الغيلة أيضًا، من الحرابة، وهو أن يغتال رجلاً أو صبياً فيخدعه حتى يدخله موضعًا فيأخذ ما معه، فهو كالحرابة. ولو دخل دارًا بالليل وأخذ المال بالمكابرة ومنع الاستغاثة، فهو محارب. والخناقون، والذين يسقون الناس السيكران ليأخذوا أموالهم محاربون. وكل من قتل أحدًا على ما معه، قل أو كثر، فهو محارب، فعل ذلك بعبد أو حر، مسلم أو ذمي.
وأما حكم قتالهم، فقال مالك وابن القاسم: جهادهم جهاد. وفي كتاب محمد قال: ولم يختلف قول مالك وأصحابه في إجازة قتال المحاربين.
قال مالك: ويناشد المحارب الله تعالى ثلاثًا، وإن عاجله قاتله.
وقال عبد الملك: لا يدعوه، وليبادر إلى قتله.
وفي كتاب ابن سحنون وغيره: قال مالك: يدعى اللص إلى التقوى، فإن أبى فقاتله، وإن طلبوا مثل الطعام والثوب وما خف فليعطوه ولا يقاتلوا.
وقال عبد الملك: لا تدعه وقاتله واقتله وأجهز عليه.
وقال سحنون: وأنا أرى ألا يعطوا شيئا وإن قل، ولا يدعوا، وليظهر لهم الصبر والجلد، والقتال بالسيف، فهو أكسر لهم، وأقطع لطمعهم.

.الطرف الثاني: في العقوبة والغرم:

ما العقوبة، فما ذكر الله سبحانه في محكم كتابه من القتل، والصلب، وقطع الأيدي والأرجل والنفي.
فأما القتل والصلب فيجمع بينهما، ويقدم الصلب عند ابن القاسم، ويؤخر عند أشهب. وروى ابن حبيب تقدمه الصلب كقول ابن القاسم. وأما قطع اليد والرجل فمن خلاف. وأما النفي ففي حق الحر كما تقدم في الزاني البكر، ينفي إلى بلد ويحبس فيه حتى تظهر توبته.
ثم التعيين موكول إلى اجتهاد الإمام على ما يراه كافيًا في ردعه وزجره، فإن كان ذا قوة وبطش ورأي وتدبير، ويجتمع إليه، ويتحير إلى جهته، فهذا حده القتل، وإن كان ذا قوة وبطش فقط، قطع من خلاف، وإن كان الذي ليس فيه ذلك، وإنما فعل مرة ولعله أن يتوب، فهذا يضرب على ما يراه الإمام، وينفي إلى غير بلده فيحسن به حتى تظهر توبته بعد طول السجن.
قال أشهب: وإن جلده مع النفي لضعيف، وإنما استحسنه لما خفف عنه من غيره. ولو قال به قائل لم أعبه. وروى مطرف: أنه يسجن ببلده.
وقال ابن الماجشون: معنى النفي أن يطلبوا فيختفوا فيدون الطلب عليهم حتى يظفر بهم، فيقام عليهم القتل أو الصلب أو القطع.
وقال الشيخ أبو إسحاق: وقد قيل: إن النفي أن ينفي من قراره، ثم يطلب ويختفي، ثم يطلب فلا يزال هكذا أبدًا، ولا ينفي إلى بلد الشرك. قال: وبهذا أقول، وهو المفعول كان ببلد الرسول صلى الله عليه وسلم.
ويجوز قتل المحارب وإن لم يكن قتل. ويجوز قتل الربيئة كما فعل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وإذا تاب المحارب، وقد كان زنى أو سرق في حرابته، فقال عبد الملك بن الحسن: قال أشهب: لا يوضع ذلك عنه.
وفي كتاب محمد: قال مالك وابن القاسم وأشهب: وإذا ولي أحد المحاربين قتل رجل ممن قطعوا عليه، ولم يعاونه أحد من أصحابه على قتله؛ فإنهم يقتلون كلهم، ولا عفو فيهم للأولياء ولا للإمام.
وكذلك لو ولي أخذ المال وأخذ منهم ثم ظفرنا بغيره، فإنه يلزمه غرم جميع ذلك المال، كان قد أخذ من ذلك حصة أو لم يأخذ.
قال مالك: ولو تاب واحد منهم ثم ظفرنا بغيره، فغنه يلزمه غرم جميع ذلك المال، كان قد أخذ من ذلك حصة أو لم يأخذ.
قال مالك: ولو تاب واحد منهم، وقد أخذ كل واحد منهم حصته من المال، فإن هذا التائب يضمن جميع المال، لأن الذي ولي أخذ المال إنما قوي بهم.
قال ابن القاسم: وكذلك القتل عندي، يقتل من لم يل القتل منهم، ولا أعان فيه.
وقال في العتبية: وقد استوجبوا القتل كلهم، ولو كانوا مائة ألف.
قال في كتاب محمد: وكذلك لو تابوا كلهم قبل أن يقدر عليهم كان للأولياء قتلهم كلهم، وإن شاءوا عفوا عن بعضهم على الدية. ولو ظفر بهم الإمام قبل التوبة قتلهم أجمعين.
وقال أشهب: إن أخذوا قبل أن يتوبوا قتل جميعهم ولا عفو فيهم.
وأما إن تابوا قبل أن يقدر عليهم، فقد سقط عنهم حكم الحرابة كله، ولم يقتل منهم إلا من ولي القتل، ومن أعان عليه، ومن أمسكه له، وهو يعلم أنه يريد قتله، ولا يقتل الآخرون، ولكن يضرب كل واحد منهم مائة، ويحبس عامًا.
أما الغرم، فحكم المحارب فيه في حال ثبوت الحد، وسقوطه في حالتي اليسر والعسر، وتبدلهما، حكم السارق، على ما تقدم.
قال سحنون في العتبية: إذا أقيم على المحارب الحد، فحكمه حكم السارق فيما وجب عليه من مال إن كان وفره متصلاً، أخذ كل ما لزمه من استكراه النساء، واستهلاك مال، ودية النصراني، وقيمة العبد، وإن لم يتصل وفره لم يتبع بشيء. وإن لم يقم عليه حد الحرابة اتبع بذلك، يلزمه في ماله وذمته، ويلزمه القصاص لمن له قصاص.

.الطرف الثالث: في حكم هذه العقوبة:

ولها حكمان:
أحدهما: أنها تسقط بالتوبة قبل الظفر بهم لا بعده. ثم إنما يسقط الحد دون القصاص والغرم، كما تقدم.
الحكم الثاني: أن القتل حق لله تعالى، حتى لو عفا ولي الدم قتل حدًا، ولا يثبت حق القصاص، ويقتل بمن ليسوا كفؤاً. ولا يتحتم قتل المحارب على الإمام إلا إذا قتل.
فروع:
الفرع الأول: الجرح الساري يوجب قتلاً منحتمًا.
الفرع الثاني:
أنه يوالي بين قطع اليد والرجل، ومن استحق يساره بالقصاص، ويمينه بالسرقة، قطعت يمينه بالسرقة، فإن عاش قطعت شماله قصاصًا، وإن مات سقط القصاص، ويجمع ذلك عليه، إلا أن يخشى هلاكه فيفرق.
الفرع الثالث:
إذا اجتمعت عقوبات الآدميين، كحد القذف والقطع والقتل، وطلبوا جميعًا، جلد، ثم قتل، ودخل القطع في القتل.
الفرع الرابع:
إذا اجتمعت حدود الله تعالى، كجلد الشرب والزنى وقطع السرقة والقتل، قتل، وهو يأتي على ما قبله.
ولو اجتمع حد القذف وحد الشرب، تداخلا، وأجزأ عنهما جلد ثمانين أو أربعين.
من زنى وهو بكر، ثم زنى وهو ثيب، اندرج الجلد تحت الرجم.
الفرع الخامس: إن قطع الطريق يثبت بشهادة رجلين ولو من الرفقة، إذا لم يضيفا في الشهادة الجناية إلى أنفسهما، فتجوز على المحاربين شهادة من حاربوه إن كانوا عدولاً، إذ لا سبيل إلى غير ذلك، ولأن المحاربين إن قالوا: ما قطعنا عليكم، فقد أزالوا عنهم الظنة، وإن أقروا فقد صدقوهم في قطعهم الطريق عليهم، شهدوا بقتل أو بأخذ مال أو غيره. ولا تقبل شهادة أحد منهم لنفسه، وتقبل شهادة بعضهم لبعض.
وإذا كان المحارب مشهورًا، كان حاله في الحرابة مستفيضًا، فشهد عليه من يعرفه بعينه أن هذا هو فلان المشهور، بعين÷ أقام الإمام عليه الحد بهذه الشهادة وقتله، وإن لم يشهد عليه هؤلاء الشهود بمعاينة القتل والسلب وقطع الطريق.
وإذا أخذ المحاربون ومعهم أموال، فادعاها قوم لا بينة لهم، فلتدفع إليهم بعد الاستيناء في استبراء ذلك من غير طول، فإن لم يأت من يدعيها دفعت إليهم بعد أيمانهم بغير حمل، ولكن يضمنهم الإمام إياها ويشهد عليهم. قال أشهب: وذلك إذا أقر اللصوص أن ذلك المتاع مما قطعوا فيه الطريق، فإن قالوا: بل هو من أموالنا، كان لهم، وإن كان كثيرًا لا يملكون مثله، حتى يقيم مدعوه البينة.
قال محمد: وما لم يأت له به طالب فهو كاللقطة، كضوال الإبل وغيرها. فإن أضاف الشهود على المحاربين من الرفقة الشهادة لأنفسهم مع الشهادة لغيرهم كقولهم: أخذ مال رفاقتنا ومالنا، لم تقبل شهادتهم، إلا أن يكون مالهم يسيرًا، فتجوز لهم ولغيرهم.
وقال المغيرة وابن دينار: لا يجوز في ذلك أقل من شهادة أربعة، قالا: وإنما تجوز في القطع في الرفقة وفي أموالهم غير الشهداء. ولا تجوز في شهادتهم لأنفسهم.

.(كتاب الشرب):

الجناية السابعة: الشرب:
والنظر في الموجب والواجب.
أما الموجب، فكل مسلم مكلف شرب ما يسكر جنسه، مختارًا من غير ضرورة وعذر، لزمه الحد. ولا يستثنى عن ذلك من كان حديث العهد بالإسلام، بل يجب الحد عليه وإن لم يعلم التحريم. رواه محمد عن مالك وأصحابه، إلا ابن وهب فإن أبا زيد روى عنه أنه قال: إذا كان كالبدروم الذي لم يقرأ الكتاب ولم يعلم ويجهل مثل هذا، فإنه لا يحد ويعذر. قال محمد: واحتج مالك بأن الإسلام قد فشا، ولا أحد يجهل شيئا من الحدود، فأما لو علم التحريم وجهل وجوب الحد لحد قولاً واحدًا. ولا حد على الحربي والذمي والمجنون والصبي. من تأويل في المسكر من غير الخمر، فرأى أن ما دون الإسكار منه حلال، فلا عذر له في ذلك، وعليه الحد. رواه محمد.
قال القاضي أبو الوليد: ولعل هذا فيمن ليس من أهل الاجتهاد والعلم، فأما من كان من أهل العلم والاجتهاد، فالصواب أنه لا حد عليه إلا أن يسكر منه. قال: وقد جالس مالك سفيان الثوري وغيره من الأئمة ممن كان يرى شرب النبيذ مباحًا، فما أقام على أحد منهم الحد، ولا دعا إليه، مع إقرارهم بشربه، وتظاهرهم به، ومناظرتهم عليه.
ولا يجب على المكره، ولا على من شرب لاضطراره إليه في إساغة الغصة، إذ يجوز له ذلك على الخلاف المتقدم.
ولا يجوز التداوي بالخمر: ولا بالأعيان النجسة. وأما الدواء الذي فيه الخمر فقال القاضي أبو بكر: تردد في ذلك علماؤنا، قال: والصحيح أنه لا يجوز لقوله صلى الله عليه وسلم: إنها ليست بدواء، ولكنها داء.
ثم يجب الحد بشرب النبيذ المسكر جنسه وإن قل المشروب منه. ومن شرب المسكر على ظن أنه شراب آخر غير مسكر، فلا حد عليه، وإن سكر وهو كالمغمى عليه. ولا يحد الشارب ما لم يظهر الموجب للقاضي بشروطه، ويظهر ذلك بشهادة رجلين أو إقراره، ويلحق بذلك إن شم منه رائحة المسكر ويشهد بها من يتيقنها ممن كان شربها في حال كفره أو فسقه، ثم تغيرت حاله إلى الإسلام والعدالة. وقد يعرف كثير من الأشياء بالرائحة، مثل الزنبق والخيري والبان وزيت الزيتون، وكل ما ثبتت معرفته بالروائح، ولولا ذلك لم يجب على سكران حد أبدا، لعله سكران من علة أو من غير شراب إذا كان الشراب لا تعرف رائحته، والخل والخمر لا يعرفان إلا برائحتهما لأن لونهما واحد ويشتبهان. وقد حكم بذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقبل فيه شهادة العدول على الرائحة. وهو قول عائشة وابن مسعود.
ثم يكفي في الشهادة أن يقول الشاهد: شرك مسكرًا، أو شرب شرابًا شربه غيره فسكر.
النظر الثاني: في الواجب:
وهو ثمانون جلدة، ويتشطر بالرق. وكيفية الجلد أن يضرب بسوط معتدل بين السوطين.
قال ابن القاسم: ضربا بين الضربين، ليس بالخفيف ولا بالمبرح. ويضرب قاعدًا، ولا يربط، ولا يمد، وتخلى يداه. ويضرب على الظهر والكتفين دون سائر أعضاء. وتضرب المرأة قاعدة، وعليها ما يستر ولا يقي. قال: واستحسن أن تقعد في قفة. ويوالي بين الضرب، ولا يفرق على الأيام، إلا أن يخشى من تواليه هلاك المجلود. ولا يجلد في حاله سكره. ولا يجلد المريض إن خيف عليه، بل يؤخر إلى برئه. ولا يجلد في البرد والحر الشديدين الذين يخشى من جلده فيهما هلاكه، بل يؤخر إلى حيث يؤمن ذلك فيه غالبًا، كما تقدم في الزاني. هذه هي الجنايات الموجبة للحد، وما عداها ومقدماتها فتوجب التعزيز.
والنظر في موجب التعزيز وقدره وجنسه ومستوفيه.
أما موجبه، فهو ما يعصى به العبد ربه من جناية على حق الله سبحانه، أو حق آدمي.
وأما قدره، فلا يتقدر أقله ولا أكثره، بل هو موكول إلى اجتهاد الإمام بحسب ما يراه في جناية جناية، ولا يلزمه الاقتصار على ما دون الحدود، ولا له الانتهاء به إلى القتل.
وأما جنسه، فلا يتخصص بسوط، أو يد أو حبس أو غيره، إنما ذلك موكول إلى اجتهاد الإمام.
قال الأستاذ أبو بكر: وفي أخبار الخلفاء المتقدمين أنهم كانوا يقابلون الرجل على قدره وقدر جنايته، فمنهم من يضرب ومنهم من يحبس، ومنهم من يقاوم واقفًا على قدميه في تلك المحافل، ومنهم من تنزع عمامته، ومنهم من تحل أزراره. قال أصحابنا: ويلزم النكال على قدر القائل والمقول له والقول. فإن كان القائل ممن لا قدر له، أو عرف بالأذى، والمقول له من أهل الخير والصيانة، كانت العقوبة أشد، وإن كانا من أهل الخير والصيانة كانت العقوبة أخف، إلا أن يكون مضمون القول الأمر الخفيف فلا يعاقب، ويزجر بالقول. وإن كان القائل ممن له قدر، وهو معروف بالخير، والمقول له غير ذلك زجر بالقول.
قال مالك: وقد يتجافى السلطان عن الفلتة التي تكون من ذوي المروءات. قال في الكتاب: ومن قال لرجل: يا سارق، نكل، وأما إن قال له: سرقت متاعي، وكان ممن يتهم، فلا شيء عليه، وإن لم يكن ممن يتهم نكل. وإن ناداه يا شارب الخمر، أو آكل الربا أو خائن، نكل. وكذلك إن ناداه بثور أو خنزير أو حمار وابن الحمار، أو ناداه بيهودي أو نصراني أو عابد وثن أو مجوسي، ففي ذلك كله النكال. ولم يحد مالك في النكال حدًا ولكنه يختلف في الناس.
وأما الحدود فالناس فيها سواء. ويجوز العفو في النكال، والشفاعة، وإن بلغ الإمام، وقد قال مالك فيمن توجه عليه التعزيز وانتهى إلى الإمام: إن كان من أهل العفاف والمروءة، إنما هي طارئة منه فيتجافى عن عقوبته، وأما من عرف بالأذى والتسلط فلا يقله ولينكله.
قال الأستاذ: أبو بكر: وظاهر هذه الأمالي والإطلاقات يقتضي أن التعزيز واجب إذا قام به صاحبه الذي، وإن لم يطالبه لم يعزز. قال: ولم يفصل أصحابنا هل ما يتعلق من التعزيرات بما سوى حقوق الآدميين واجب كالمتعلق به منها أم لا، بل أطلقوا القول أن التعزير واجب في الجملة، ولمي فصلوا هذا التفصيل.
فرع:
قال الأستاذ: والمعتبر في الرفيع القرآن والعلم والآداب الإسلامية. والمعتبر في الدناءة الجهل.
وأما المستوفى، فهو الإمام والأب والسيد والزوج. لكن الأب يؤدب الصغير دون الكبير، ومعلمه، أيضًا، يؤدبه بإذنه، والسيد يعزر في حق نفسه وفي حق الله عز وجل. والزوج يعزر في النشوز وما يشبهه مما يتعلق بمنع حقه.
والتعزير جائز بشرط سلامة العاقبة، فإن سرى ضمنت عاقلة المعزر، بخلاف الحد. فلو كانت المرأة لا تترك النشوز إلا بضرب مخوف لم يجز تعزيرها أصلاً.

.كتاب موجبات الضمان:

والنظر في ضمان سراية الفعل المأذون في عينه أو جنسه، وضمان الصائل وإتلاف البهائم.

.النظر الأول: في ضمان السراية:

قال ابن القاسم: لا ضمان على الطبيب والحجام والخاتن والبيطار إذا مات أحد مما صنعوا به، إن لم يخالفوا.
قال مالك: ومعلم الكتاب أو الصنعة إن ضرب صبياً ما يعلم أنه من الأدب فمات فلا يضمن، وإن ضربه لغير الأدب تعديًا، أو أدبه فجاوز به الأدب، ضمن ما أصابه من ذلك.
وكذلك الطبيب يعالج إنسانًا فيؤتي على يده، فإن لم يكن له بذلك علم ودخل فيه جرأة وظلمًا، وكان مثله لا يعمل مثل هذا ولا يعرفه، فليستأدى عليه، وليقدم إليهم الإمام في قطع العروق وشبه ذلك ألا يتقدم أحد منهم على مثل هذا إلا بإذنه، وينهوا عن الأشياء المخوفة التي يتقى منها الهلاك، ولا يتقدموا فيها إلا بإذن الإمام. وأما المعروف بالعلاج فلا شيء عليه.
وقال القاضي أبو محمد: ما أتى على يد الطبيب مما لم يقصده فيه روايتان، إحداهما:
أنه يضمنه لأن قتل خطأ؛ والأخرى: أنه لا يضمنه لأنه تولد عن فعل مباح مأذون له فيه، كالإمام إذا حد إنسانًا فمات.
وقال محمد بن حارث: انظر فكل من فعل فعلاً يجوز له أن يفعله بلا تخطير، ففعله على وجهه فعلاً صوابًا، فتولد من نفس ذلك الفعل هلاك نفس أو ذهاب جارحة أو تلف مال، فإنه لا ضمان على ذلك الفاعل. وإن كان إنما أراد أن فعل الفعل الجائز فأخطأ ففعل فإنه لا ضمان على ذلك الفاعل. وإن كان إنما أراد أن فعل الفعل الجائز فأخطأ ففعل غيره، أو جاوز فيه الحد، أو قصر فيه عن المقدار، فما تولد عن ذلك فهو ضامن له، قال: وما خرج من هذا الأصل فمردود إليه.
وفي العتبية قال عيسى: من غر من نفسه لم يضمن، ودية ذلك على عاقلته. قال أشهب عن مالك فيمن سقاه طبيب دواء فمات وقد سقى أمه قبله فماتت أيضمن؟ قال: لا. ولكن لو تقدم إليهم في ذلك وضمنوا لكان حسنًا، ويقال لهم: أي طبيب سقى أحدًا فمات أو بطه فمات فعليه الضمان.
وفي المجموعة عن مالك في الحجام يقطع حشفة صغير أو كبير، أو يؤمر بقطع يد قصاصاً فيقطع غيرها، أو زاد في القصاص، فهو من الخطأ، على عاقلته إلا دون الثلث فهو في ماله، عمل ذلك بأجر أو بغير أجر. ولو أمره عبد أن يختنه أو يحجمه أو يقطع عرقه ففعل فهو يضمن ما أصاب العبد من ذلك إن فعله بغير إذن سيده، علم أنه عبد أو لم يعلم.
ومن حفر في مكله، أو في ما أذن له الحفر فيه لمنفعة كفناء دار، فأسقط جدار جاره ضمنه.
ومن أوقد نارًا على سطحه في ويم ريح عاصف ضمن ما أتلف مما كان يغلب على الظن عند الوقود وصولها إليه، ولو كان إنما أججها في حالة لا يظن بها ذلك، فعصفت ريح بغتة فنقلتها، فلا ضمان.
ومن سقط ميزابه على رأس إنسان فلا ضمان عليه، بل هو هدر. وكذلك الظلة والعسكر.
ومن كان جداره مائلاً إلى الشارع، فإن بناه مائلاً فهو ضامن، وأما إن مال في الدوام فإن لم يتدارك مع الإمكان والإنذار والإشهاد وجب الضمان، وإن لم ينذر ففي الضمان خلاف.
ومن رش الماء في الطريق لأن تزلق به دابة، فهو ضامن لما عطب به، وإن كان إنما رش تبردًا وتنظفًا، ولم يرد إلا خيرًا لم يضمن ما عطب بذلك.